سورة الروم - تفسير تفسير البيضاوي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الروم)


        


{وَلَهُمْ مَن فِى السموات والأرض كُلٌّ لَّهُ قانتون} منقادون لفعله فيهم لا يمتنعون عنه.
{وَهُوَ الذى يَبْدَؤُاْ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} بعد هلاكهم. {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} والإِعادة أسهل عليه من الأصل بالإِضافة إلى قدركم والقياس على أصولكم وإلا فهما عليه سواء ولذلك قيل الهاء ل {الخلق}، وقيل: {أَهْوَنُ} بمعنى هين وتذكير هو لأهون أو لأن الإِعادة بمعنى أن يعيد. {وَلَهُ المثل} الوصف العجيب الشأن كالقدرة العامة والحكمة التامة ومن فسره بقول لا إله إلا الله أراد به الوصف بالوحدانية. {الأعلى} الذي ليس لغيره ما يساويه أو يدانيه. {فِي السموات والأرض} يصفه به ما فيها دلالة ونطقاً. {وَهُوَ العزيز} القادر الذي لا يعجز عن إبداء ممكن وإعادته. {الحكيم} الذي يجري الأفعال على مقتضى حكمته.
{ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مّنْ أَنفُسِكُمْ} منتزعاً من أحوالها التي هي أقرب الأمور إليكم. {هَلْ لَّكُمْ مّن مَّا مَلَكَتْ أيمانكم} من مماليككم. {مّن شُرَكَاء فِيمَا رزقناكم} من الأموال وغيرها. {فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} فتكونون أنتم وهم فيه شرعاً يتصرفون فيه كتصرفكم مع أنهم بشر مثلكم وأنها معارة لكم، و{مِنْ} الأولى للابتداء والثانية للتبعيض والثالثة مزيدة لتأكيد الاستفهام الجاري مجرى النفي. {تَخَافُونَهُمْ} أن يستبدوا بتصرف فيه. {كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} كما يخاف الأحرار بعضهم من بعض. {كذلك} مثل ذلك التفصيل. {نُفَصّلُ الآيات} نبينها فإن التفصيل مما يكشف المعاني ويوضحها. {لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} يستعملون عقولهم في تدبر الأمثال.
{بَلِ اتبع الذين ظَلَمُواْ} بالإِشراك. {أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} جاهلين لا يكفهم شيء فإن العالم إذا اتبع هواه ربما ردعه علمه. {فَمَن يَهْدِى مَنْ أَضَلَّ الله} فمن يقدر على هدايته. {وَمَا لَهُم مّن ناصرين} يخلصونهم من الضلالة ويحفظونهم عن آفاتها.
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفاً} فقومه له غير ملتفت أو ملتفت عنه، وهو تمثيل للإقبال والاستقامة عليه والاهتمام به. {فِطْرَتَ الله} خلقته نصب على الإِغراء أو المصدر لما دل عليه ما بعدها. {التى فَطَرَ الناس عَلَيْهَا} خلقهم عليها وهي قبولهم للحق وتمكنهم من إدراكه، أو ملة الإِسلام فإنهم لو خلوا وما خلقوا عليه أدى بهم إليها، وقيل العهد المأخوذ من آدم وذريته. {لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله} لا يقدر أحد يغيره أو ما ينبغي أن يغير. {ذلك} إشارة إلى الدين المأمور بإقامة الوجه له أو الفطرة إن فسرت بالملة. {الدين القيم} المستقيم الذي لا عوج فيه. {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} استقامته لعدم تدبرهم.
{مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ} راجعين إليه من أناب إذا رجع مرة بعد أخرى، وقيل منقطعين إليه من الناب وهو حال من الضمير في الناصب المقدر لفطرة الله أو في أقم لأن الآية خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والأمة لقوله: {واتقوه وَأَقِيمُواْ الصلاة وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المشركين} غير أنها صدرت بخطاب الرسول صلى الله عليه وسلم تعظيماً له.
{مِنَ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ} بدل من المشركين وتفريقهم اختلافهم فيما يعبدونه على اختلاف أهوائهم، وقرأ حمزة والكسائي {فارقوا} بمعنى تركوا دينهم الذي أمروا به. {وَكَانُواْ شِيَعاً} فرقاً تشايع كل إمامها الذي أضل دينها. {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} مسرورون ظناً بأنه الحق، ويجوز أن يجعل فرحون صفة كل على أن الخبر {مِنَ الذين فَرَّقُواْ}.
{وَإِذَا مَسَّ الناس ضُرٌّ} شدة. {دَعَوْاْ رَبَّهُمْ مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ} راجعين من دعاء غيره. {ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مّنْهُ رَحْمَةً} خلاصاً من تلك الشدة. {إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ بِرَبّهِمْ يُشْرِكُونَ} فاجأ فريق منهم بالإِشراك بربهم الذي عافاهم.
{لِيَكْفُرُواْ بِمَآ ءاتيناهم} اللام فيه للعاقبة وقيل للأمر بمعنى التهديد لقوله: {فَتَمَتَّعُواْ} غير أنه التفت فيه مبالغة وقرئ و{ليتمتعوا}. {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} عاقبة تمتعكم، وقرئ بالياء التحتية على أن تمتعوا ماض.
{أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سلطانا} حجة وقيل ذا سلطان أي ملكاً معه برهان. {فَهُوَ يَتَكَلَّمُ} تكلم دلالة كقوله: {كتابنا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق} أو نطق. {بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ} بإشراكهم وصحته، أو بالأمر الذي بسببه يشركون به في ألوهيته.
{وَإِذَا أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً} نعمة من صحة وسعة. {فَرِحُواْ بِهَا} بطروا بسببها. {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ} شدة. {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} بشؤم معاصيهم. {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} فاجؤوا القنوط من رحمته وقرأ الكسائي وأبو عمرو بكسر النون.
{أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ} فما لهم يشكروا ولم يحتسبوا في السراء والضراء كالمؤمنين. {إِنَّ فِى ذلك لآيات لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} فيستدلون بها على كمال القدرة والحكمة.


{فَئَاتِ ذَا القربى حَقَّهُ} كصلة الرحم، واحتج به الحنفية على وجوب النفقة للمحارم وهو غير مشعر به. {والمساكين وابن السبيل} ما وظف لهما من الزكاة، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لمن بسط له ولذلك رتب على ما قبله بالفاء. {ذَلِكَ خَيْرٌ لّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ الله} ذاته أو جهته أي يقصدون بمعروفهم إياه خالصاً، أو جهة التقرب إليه لا جهة أخرى. {وأولئك هُمُ المفلحون} حيث حصلوا بما بسط لهم النعيم المقيم.
{وَمَا ءَاتَيْتُمْ مّن رِباً} زيادة محرمة في المعاملة أو عطية يتوقع بها مزيد مكافأة، وقرأ ابن كثير بالقصر بمعنى ما جئتم به من إعطاء ربا. {لّيَرْبُوَاْ فِى أَمْوَالِ الناس} ليزيد ويزكو في أموالهم. {فَلاَ يَرْبُواْ عَندَ الله} فلا يزكو عنده ولا يبارك فيه، وقرأ نافع ويعقوب {لتربوا} أي لتزيدوا أو لتصيروا ذوي ربا. {وَمَآ ءَاتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ} تبتغون به وجهه خالصاً {فَأُوْلَئِكَ هُمُ المضعفون} ذوو الأضعاف من الثواب ونظير المضعف المقوي والموسر لذي القوة واليسار، أو الذين ضعفوا ثوابهم وأموالهم ببركة الزكاة، وقرئ بفتح العين وتغييره عن سنن المقابلة عبارة ونظماً للمبالغة، والالتفات فيه للتعظيم كأنه خاطب به الملائكة وخواص الخلق تعريفاً لحالهم، أو للتعميم كأنه قال: فمن فعل ذلك {فَأُوْلَئِكَ هُمُ المضعفون}، والراجع منه محذوف إن جعلت ما موصولة تقديره المضعفون به، أو فَمُؤْتُوه أولئك هم المضعفون.
{الله الذى خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مّن شَئ} أثبت له لوازم الألوهية ونفاها رأساً عما اتخذوه شركاء له من الأصنام وغيرها مؤكداً بالإنكار على ما دل عليه البرهان والعيان ووقع عليه الوفاق، ثم استنتج من ذلك تقدسه عن أن يكون له شركاء فقال: {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} ويجوز أن تكون الكلمة الموصولة صفة والخبر {هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ} والرابط {مّن ذلكم} لأنه بمعنى من أفعاله، و{مِنْ} الأولى والثانية تفيد أن شيوع الحكم في جنس الشركاء والأفعال والثالثة مزيدة لتعميم المنفي وكل منها مستقلة بتأكيد لتعجيز الشركاء، وقرأ حمزة والكسائي بالتاء.
{ظَهَرَ الفساد فِى البر والبحر} كالجدب والموتان وكثرة الحرق والغرق وإخفاق الغاصة ومحق البركات وكثرة المضار، أو الضلالة والظلم. وقيل المراد بالبحر قرى السواحل وقرئ و{البحور}. {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى الناس} بشؤم معاصيهم أو بكسبهم إياه، وقيل ظهر الفساد في البر بقتل قابيل أخاه وفي البحر بأن جلندا ملك عمان كان يأخذ كل سفينة غصباً. {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الذى عَمِلُواْ} بعض جزائه فإن تمامه في الآخرة واللام للعلة أو العاقبة. وعن ابن كثير ويعقوب {لّنُذِيقَهُمْ} بالنون.
{لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} عما هم عليه.
{قُلْ سِيرُواْ فِى الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلُ} لتشاهدوا مصداق ذلك وتحققوا صدقه. {كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّشْرِكِينَ} استئناف للدلالة على أن سوء عاقبتهم كان لفشو الشرك وغلبته فيهم، أو كان الشرك في أكثرهم وما دونه من المعاصي في قليل منهم.
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينَ القيم} البليغ الاستقامة. {مِن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ} لا يقدر أن يرده أحد، وقوله: {مِنَ الله} متعلق ب {يَأْتِىَ}، ويجوز أن يتعلق ب {مَرَدْ} لأنه مصدر على معنى لا يرده الله لتعلق إرادته القديمة بمجيئه. {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} يتصدعون أي يتفرقون {فَرِيقٌ فِى الجنة وَفَرِيقٌ فِى السعير} كما قال: {مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} أي وباله وهو النار المؤبدة. {وَمَنْ عَمِلَ صالحا فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} يسوون منزلاً في الجنة، وتقديم الظرف في الموضعين للدلالة على الاختصاص.
{لِيَجْزِىَ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِن فَضْلِهِ} علة ل {يَمْهَدُونَ} أو ل {يَصَّدَّعُونَ}، والاقتصار على جزاء المؤمنين للإِشعار بأنه المقصود بالذات والاكتفاء على فحوى قوله: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الكافرين} فإن فيه إثبات البغض لهم والمحبة للمؤمنين، وتأكيد اختصاص الصلاح المفهوم من ترك ضميرهم إلى التصريح بهم تعليل له ومن فضله دال على أن الإِثابة تفضل محض، وتأويله بالعطاء أو الزيادة على الثواب عدول عن الظاهر.
{وَمِنْ ءاياته أَن يُرْسِلَ الرياح} الشمال والصبا والجنوب فإنها رياح الرحمة وأما الدبور فريح العذاب، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً» وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي {الريح} على إرادة الجنس. {مبشرات} بالمطر. {وَلِيُذِيقَكُمْ مّن رَّحْمَتِهِ} يعني المنافع التابعة لها، وقيل الخصب التابع لنزول المطر المسبب عنها أو الروح الذي هو مع هبوبها والعطف على علة محذوفة دل عليها {مبشرات} أو عليها باعتبار المعنى، أو على {يُرْسِلُ} بإضمار فعل معلل دل عليه. {وَلِتَجْرِيَ الفلك بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} يعني تجارة البحر. {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ولتشكروا نعمة الله تعالى فيها.


{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُم بالبينات فانتقمنا مِنَ الذين أَجْرَمُواْ} بالتدمير. {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ المؤمنين} إشعار بأن الانتقام لهم وإظهار لكرامتهم حيث جعلهم مستحقين على الله أن ينصرهم، وعنه عليه الصلاة والسلام: «ما من امرئ مسلم يرد عن عرض أخيه إلا كان حقاً على الله أن يرد عنه نار جهنم ثم تلا ذلك» وقد يوقف على {حَقّاً} على أنه متعلق بالانتقام.
{الله الذى يُرْسِلُ الرياح فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ} متصلاً تارة. {فِى السماء} في سمتها. {كَيْفَ يَشَاءُ} سائراً أو واقفاً مطبقاً وغير مطبق من جانب دون جانب إلى غير ذلك. {وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً} قطعاً تارة أخرى، وقرأ ابن عامر بالسكون على أنه مخفف أو جمع كسفة أو مصدر وصف به. {فَتَرَى الودق} المطر. {يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ} في التارتين. {فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} يعني بلادهم وأراضيهم. {إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} لمجيء الخصب.
{وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ} المطر. {مِن قَبْلِهِ} تكرير للتأكيد والدلالة على تطاول عهدهم بالمطر واستحكام يأسهم، وقيل الضمير للمطر أو السحاب أو الإِرسال. {لَمُبْلِسِينَ} لآيسين.
{فانظر إلى أَثَرِ رَحْمَتَ الله} أثر الغيث من النبات والأشجار وأنواع الثمار ولذلك جمعه ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص. {كَيْفَ يُحْيِي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا} وقرئ بالتاء على إسناده إلى ضمير الرحمة. {إِنَّ ذلك} يعني إن الذي قدر على إحياء الأرض بعد موتها. {لَمُحْيِي الْمَوْتَى} لقادر على إحيائهم فإنه إحداث لمثل ما كان في مواد أبدانهم من القوى الحيوانية، كما أن إحياء الأرض إحداث لمثل ما كان فيها من القوى النباتية، هذا ومن المحتمل أن يكون من الكائنات الراهنة ما يكون من مواد تفتت وتبددت من جنسها في بعض الأعوام السالفة. {وَهُوَ على كُلّ شَئ قَدِيرٌ} لأن نسبة قدرته إلى جميع الممكنات على سواء.
{وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً} فرأوا الأثر أو الزرع فإنه مدلول عليه بما تقدم، وقيل السحاب لأنه إذا كان {مُصْفَرّاً} لم يمطر واللام موطئة للقسم دخلت على حرف الشرط وقوله: {لَّظَلُّواْ مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ} جواب سد مسد الجزاء ولذلك فسر بالاستقبال. وهذه الآية ناعية على الكفار بقلة تثبتهم وعدم تدبرهم وسرعة تزلزلهم لعدم تفكرهم وسوء رأيهم، فإن النظر السوي يقتضي أن يتوكلوا على الله ويلتجئوا إليه بالاستغفار إذا احتبس القطر عنهم ولا ييأسوا من رحمته، وأن يبادروا إلى الشكر والاستدامة بالطاعة إذا أصابهم برحمته ولم يفرطوا في الاستبشار وأن يصبروا على بلائه إذا ضرب زرعهم بالاصفرار ولا يكفروا نعمه.
{فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى} وهم مثلهم لما سدوا عن الحق مشاعرهم.
{وَلاَ تُسْمِعُ الصم الدعاء إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ} قيد الحكم به ليكون أشد استحالة، فإن الأصم المقبل وإن لم يسمع الكلام يفطن منه بواسطة الحركات شيئاً، وقرأ ابن كثير بالياء مفتوحة ورفع {الصم}.
{وَمَا أَنتَ بِهَادِ العمى عَن ضلالتهم} سماهم عمياً لفقدهم المقصود الحقيقي من الأبصار أو لعمى قلوبهم، وقرأ حمزة وحده {تهدي العمي}. {إِنْ تُسْمِع إِلاَّ مَن يُؤْمِن بِآيَاتِنَا} فإن إيمانهم يدعوهم إلى تلقي اللفظ وتدبر المعنى، ويجوز أن يراد بالمؤمن المشارف للإِيمان. {فَهُم مُّسْلِمُونَ} لما تأمرهم به.
{الله الذى خَلَقَكُمْ مّن ضَعْفٍ} أي ابتدأكم ضعفاء وجعل الضعف أساس أمركم كقوله: {خَلَقَ الإنسان ضَعِيفاً} أو خلقكم من أصل ضعيف وهو النطفة. {ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} وذلك إذا بلغتم الحلم أو تعلق بأبدانكم الروح. {ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً} إذا أخذ منكم السن، وفتح عاصم وحمزة الضاد في جميعها والضم أقوى لقول ابن عمر رضي الله عنهما: قرأتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ضعف فأقرأني من ضُعف» وهما لغتان كالفقر والفُقر والتنكير مع التكرير لأن المتأخر ليس عين المتقدم. {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} من ضعف وقوة وشبيبة وشيبة. {وَهُوَ العليم القدير} فإن الترديد في الأحوال المختلفة مع إمكان غيره دليل العلم والقدرة.
{وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة} القيامة سميت بها لأنها تقوم في آخر ساعة من ساعات الدنيا، أو لأنها تقع بغتة وصارت علماً بها بالغلبة كالكوكب للزهرة. {يُقْسِمُ المجرمون مَا لَبِثُواْ} في الدنيا أو في القبور أو فيما بين فناء الدنيا والبعث وانقطاع عذابهم، وفي الحديث: «ما بين فناء الدنيا والبعث أربعون» وهو محتمل الساعات والأيام والأعوام. {غَيْرَ سَاعَةٍ} استقلوا مدة لبثهم إضافة إلى مدة عذابهم في الآخرة أو نسياناً. {كذلك} مثل ذلك الصرف عن الصدق والتحقيق. {كَانُواْ يُؤْفَكُونَ} يصرفون في الدنيا.
{وَقَالَ الذين أُوتُواْ العلم والإيمان} من الملائكة والإِنسَ. {لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِى كتاب الله} في علمه أو قضائه، أو ما كتبه لكم أي أوجبه أو اللوح أو القرآن وهو قوله: {وَمِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ}. {إلى يَوْمِ البعث} ردوا بذلك ما قالوه وحلفوا عليه. {فهذا يَوْمُ البعث} الذي أنكرتموه. {ولكنكم كُنتمْ لاَ تَعْلَمُونَ} أنه حق لتفريطكم في النظر، والفاء لجواب شرط محذوف تقديره: إن كنتم منكرين البعث فهذا يومه، أي فقد تبين بطلان إنكاركم.
{فَيَوْمَئِذٍ لاَّ تنفَعُ الذين ظَلَمُواْ مَعْذِرَتُهُمْ} وقرأ الكوفيون بالياء لأن المعذرة بمعنى العذر، أو لأن تأنيثها غير حقيقي وقد فصل بينهما. {وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} لا يدعون إلى ما يقتضي إعتابهم أي إزالة عتبهم من التوبة والطاعة كما دعوا إليه في الدنيا من قولهم استعتبني فلان فأعتبته أي استرضاني فأرضيته.

1 | 2 | 3